فصل: باب صيام اليوم الذي يشك فيه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


قال أبو عمر رواه معمر عن أيوب عن بن سيرين عن أبي هريرة موقوفا قال من أكل أو شرب ناسيا فليس عليه بأس الله أطعمه وسقاه قال معمر وكان قتادة يقوله وروي عن علي وعن بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - وعن عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن فيمن أكل أو شرب ناسيا أنه لا شيء عليه‏.‏

637- وفي هذا الباب ذكر مالك عن حميد بن قيس المكي أنه أخبره قال كنت مع مجاهد وهو يطوف بالبيت فجاءه إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة أمتتابعات أم يقطعها قال حميد فقلت له نعم يقطعها إن شاء قال مجاهد لا يقطعها فإنها في قراءة أبي بن كعب ثلاثة أيام متتابعات قال مالك وأحب إلي أن يكون ما سمى الله في القرآن يصام متتابعا قال أبو عمر في هذا الحديث جواب المتعلم بين يدي المعلم أنه لا حرج عليه في ذلك وحسب الشيخ إن كان عنده علم بذلك أخبر به ونبه عليه فأفاد ولم يعنف ويجب بدليل هذا الخبر أيضا أن من رد على غيره قوله كان دونه أو مثله أو فوقه - أن يأتي بحجة أو وجه يبين به فضل قوله لموضع الخلاف وفيه جواز الاحتجاج من القراءات بما ليس في مصحف عثمان إذا لم يكن في مصحف عثمان ما يدفعها وهذا جائز عند جمهور العلماء وهو عندهم يجري مجرى خبر الواحد في الاحتجاج به للعمل بما يقتضيه معناه دون القطع عن مغيبيه وفي مثل هذا ما مضى في كتاب الصلاة من الاحتجاج على قول الله - عز وجل - ‏(‏فاسعوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏(‏فامضوا إلى ذكر الله‏)‏ ‏[‏الجمعة 9‏]‏‏.‏ وهي قراءة ابنه مسعود‏.‏

وأما صيام الثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد ما يكفر به من إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فجمهور أهل العلم يستحبون أن تكون متتابعات ولا يوجبون التتابع إلا في الشهرين اللذين يصامان كفارة لقتل الخطأ أو الظهار أو الوطء عامدا في رمضان ويستحبون في ذلك ما استحبه مالك ذكر عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال كل صوم في القرآن فهو متتابع إلا قضاء رمضان وعن بن جريج قال سمعت عطاء يقول بلغنا أن في قراءة بن مسعود ‏(‏فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام‏)‏ متتابعات ‏[‏المائدة 89‏]‏‏.‏

قال عطاء وكذلك يقرؤها وكذلك كان يقرؤها أبو إسحاق والأعمش وعن معمر عن أبي إسحاق والأعمش قالا في حرف بن مسعود ‏(‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏)‏ وعن بن عيينة عن بن جريج قال جاء رجل إلى طاوس يسأله عن صيام ثلاثة أيام كفارة اليمين فقال صم كيف شئت فقال مجاهد يا أبا عبد الرحمن إنها في قراءة بن مسعود ‏(‏ متتابعات‏)‏ قال فأخبر الرجل وفيما ذكرنا عن هؤلاء العلماء دليل على صحة ما وصفنا وبالله توفيقنا‏.‏

وأما قوله سئل مالك عن المرأة تصبح صائمة في رمضان فتدفع دفعة من دم عبيط في غير أوان حيضها إلى آخر قوله فقد تقدم في كتاب الحيض وجه هذه المسألة وأصل مالك الذي تقدم منه هذه المسألة ومثلها عنده أن كل دم ظاهر من الرحم في غير أوان الحيض أو في غير أوانه قل أو كثر فهو دم حيض عنده تترك له المرأة الصوم والصلاة ما تمادى فيها حتى تتجاوز خمسة عشرة يوما فيعلم ذلك الوقت أنه فساد ودم عرق منقطع لا دم حيض وهذه رواية المدنيين عنه وكذلك إذا جاوزت أيامها المعروفة واستظهرت بثلاث في رواية المصريين عنه وهذا كله مبين في باب الحيض والحمد لله وفي هذا الباب وسئل مالك عمن أسلم في آخر يوم من رمضان هل عليه قضاء رمضان كله أو يجب عليه قضاء اليوم الذي أسلم فيه فقال ليس عليه قضاء ما مضى وإنما يستأنف الصيام فيما يستقبل وأحب إلي أن يقضي اليوم الذي أسلم فيه قال أبو عمر اختلف علماء التابعين من السلف ومن بعدهم في الكافر يسلم في رمضان والصبي يبلغ فيه هل عليهما قضاء ما مضى من شهر رمضان وفي اليوم الذي أسلم أو بلغ فيه ذكر عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء قال إن أسلم نصراني في بعض رمضان صام ما مضى منه مع ما بقي وإن أسلم في آخر النهار صام ذلك اليوم وعن الحكم بن أبان عن عكرمة قال يصوم ما بقي من رمضان ويقضي ما فاته فإن أسلم في آخر يوم من رمضان فهو بمنزلة المسافر يدخل في صلاة المقيمين وعن معمر عن من سمع الحسن يقول إذا أسلم في شهر رمضان صامه كله قال معمر وقال قتادة يصوم ما بقي من الشهر قال معمر وقول قتادة أحب إلي قال عبد الرزاق وقال الثوري لو أسلم كف عن الطعام في ذلك اليوم ولم يقضه ولا شيء عليه فيما مضى وهذا نحو قول مالك قال بن القاسم عن مالك يكف الذي يسلم في رمضان عن الأكل بقية يومه وليس عليه قضاء ذلك اليوم بواجب وأحب إلي لو قضاه وهو قول الشافعي قال في النصراني يسلم في رمضان والصبي يحتلم عليهما أن يصوما ما بقي من شهر رمضان ولا شيء عليهما فيما مضى ولا يجب عليهما قضاء اليوم الذي أسلم أو بلغ وأستحب لهما صومه هذا كله معنى قول أبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد وعبيد الله بن الحسن وكلهم يستحب لهما أن يكفا ذلك اليوم عن الطعام وقال الأوزاعي في الغلام يحتلم في النصف من رمضان فإنه يصوم ما مضى لأنه كان يطيق الصوم وبه قال عبد الملك بن الماجشون قال أبو عمر من أوجب على الكافر يسلم في رمضان والصبي يحتلم ما مضى فقد كلف غير مكلف لأن الله تعالى لم يكلف الصيام إلا على المؤمن إذا كان بالغا لقوله تعالى ‏(‏ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام‏)‏ ‏[‏البقرة 183‏]‏‏.‏ ولقوله ‏(‏واتقون يا أولي الألباب‏)‏ ‏[‏البقرة 197‏]‏‏.‏

فلم يدخل في إيجاب هذا الخطاب من لم يبلغ مبلغ من تلزمه الفرائض لقوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاث وذكر الغلام حتى يحتلم والجارية حتى تحيض ومن أوجب عليهم صوم ما مضى فقد أوجبه على غير مؤمن وكذلك من لم يحتلم لأنه غير مخاطب لرفع القلم عنه حتى يحتلم على ما جاء في الأثر هذا وجه النظر والله أعلم قال أبو عمر من لم يوجب عليه صوم اليوم الذي يبلغ فيه أو يسلم استحال عنده ان يكون صائما في آخر يوم كان في أوله مفطرا وليس كاليوم الذي ظنه من شعبان الذي يبلغ أو يسلم في بعض النهار لما لم يلزمه في أول النهار لم يلزمه آخره واليوم الذي يظن أنه من شعبان ثم يصح عنده في نصف النهار أنه من رمضان لازم من أوله إلى آخره فلما فاته ذلك بجهله لزمه قضاؤه وسقط الإثم عنه ولزمه الإمساك بقية النهار عن الأكل عند جماعة العلماء لأنه كان واجبا عليه أوله وآخره وكذلك آخره مع العلم والله أعلم‏.‏

باب قضاء التطوع

638- عن مالك عن بن شهاب أن عائشة وحفصة زوجي النبي صلى الله عليه وسلم أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام فأفطرتا عليه فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة فقالت حفصة وبدرتني بالكلام وكانت بنت أبيها يا رسول الله إني أصبحت أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأهدي إلينا طعام فأفطرنا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقضيا مكانه يوما آخر هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة الموطأ فيما علمت وقد روي عن عبد العزيز بن يحيى ومطرف وروح بن عبادة والقدامي عن مالك عن بن شهاب عن عروة عن عائشة مسندا إلا أنه لم يروه عنه إلا من ليس بذاك من أصحابه وممن رواه كذلك عن بن شهاب جعفر بن برقان وسفيان بن حسين وصالح بن أبي الأخضر وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة وصالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصاري إلا أن مدار حديث صالح بن كيسان ويحيى بن سعيد الأنصاري على يحيى بن أيوب وليس بذاك القوي وإسماعيل بن إبراهيم متروك الحديث وجعفر بن برقان في الزهري ليس بشيء وسفيان بن حسين وصالح بن أبي الأخضر في حديثهما عن الزهري خطأ كبير وحفاظ بن شهاب يروونه مرسلا عن بن شهاب أن عائشة وحفصة منهم مالك ومعمر وعبيد الله بن عمر وبن عيينة هكذا روى حديث عبيد الله بن عمر عنه يحيى القطان وهو الصحيح عن عبيد الله أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن منصور قال حدثنا سفيان قال سمعناه من صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين فأهدي لنا طعام مخروص عليه الحديث قال سفيان فسألوا الزهري وأنا شاهد أهو عن عروة قال لا قال أبو عمر أظن السائل الذي أشار إليه بن عيينة بالذكر هو بن جريج ذكر عن سفيان قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا بن جريج قال قلت لابن شهاب أحدثك عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أفطر في التطوع فليصمه قال لم أسمع من عروة في ذلك شيئا ولكن حدثني في خلافة سليمان إنسان عن بعض من كان يسأل عائشة أنها قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين وذكر الحديث قال الشافعي أخبرنا مسلم بن خالد عن بن جريج قال قلت لابن شهاب أسمعته من عروة بن الزبير قال لا إنما أخبرنيه رجل بباب عبد الملك بن مروان أو رجل من جلساء عبد الملك بن مروان أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثنا محمد بن عثمان بن ثابت قال حدثنا أحمد بن إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا علي بن المديني قال حدثنا سفيان قال جاءنا صالح بن الأخضر قبل أن يجيء الزهري لنا فقام فروى لنا عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها أصبحت هي وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي لهما طعام وكان الطعام مخروصا عليه فلما جاء الزهري حدثنا بهذا الحديث فلم يذكر فيه عروة ولا قال فيه وكان الطعام مخروصا عليه فوقفوا الزهري وأنا حاضر هل سمعته من عروة فقال لم أسمعه من عروة وقد ذكرنا في التمهيد ما روي مسندا في معنى هذا الحديث وعلل تلك الأحاديث كلها قال أبو عمر أجمع العلماء على أنه لا شيء على من دخل في صيام أو صدقة تطوع فقطعه عليه عذر من حدث أو غيره لم يكن له فيه سبب واختلفوا فيمن قطع صلاته أو صيامه عامدا فقال مالك وأصحابه من أصبح صائما متطوعا ثم أفطر عامدا فعليه القضاء وكذلك قال أبو حنيفة وأبو ثور وحجتهم ما ذكرنا من حديث بن شهاب المذكور وما كان معناه فيما ذكرناه في التمهيد‏.‏

وقال الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق أستحب له أن لا يفطر فإن أفطر فلا قضاء عليه وقال الثوري أحب إلي أن يقضي واختلف أصحاب أبي حنيفة فمنهم من قال بقول صاحبهم ومنهم من قال بقول الشافعي والفقهاء كلهم من أهل الرأي والأثر يقولون إن المتطوع إذا أفطر ناسيا أو عليه شيء فلا قضاء عليه وقال بن علية المتطوع عليه القضاء أفطر متعمدا أو ناسيا قياسا على الحج وقال الأثرم سألت أبا عبد الله بن حنبل عن رجل أصبح صائما متطوعا ثم بدا له فأفطر أيقضيه قال إن قضاه فحسن وأرجو أن لا يجب عليه شيء قيل له فالرجل يدخل في صلاة متطوعا أله أن يقطعها فقال الصلاة أشد لا يقطعها قيل له فإن قطعها أيقضيها قال فإن قضاها خرج من الاختلاف قال أبو عمر من حجة من قال إن المتطوع إذا أفطر لا شيء عليه من قضاء ولا غيره ما أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير بن عبد الحميد عن زيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه قالت يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة فقال لها أكنت تقضين شيئا قالت لا قال فلا يضرك إن كان تطوعا‏.‏

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا محمد بن حسان قال حدثنا حماد عن سماك بن حرب عن هارون بن أم هانئ عن أم هانئ قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صائمة فأتي بإناء من لبن فشرب ثم ناولني فشربت فقلت يا رسول الله إني كنت صائمة ولكني كرهت أن أرد سؤرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان من قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه وإن كان من غير قضاء رمضان فإن شئت فاقضي وإن شئت لا تقضي قال أبو عمر إختلف في هذا الحديث عن سماك وغيره وهذا الإسناد أصح إسناد لهذا الحديث من طرق سماك ولا يقوم على غيره رواه شعبة عن سماك قال شعبة وكان سماك يقول حدثني ابنا أم هانئ فرويته عن أفضلهما واحتج الشافعي أيضا بجواز الفطر في التطوع بأن قال حدثنا سفيان بن عيينة عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنا خبأنا لك حيسا فقال أما إني كنت أريد الصوم ولكن قدميه قال‏.‏

وأخبرنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حتى إذا كان بكراع الغميم وهو صائم رفع إناء فوضعه على يده وهو الرحل فشرب والناس ينظرون فقال هذا لما كان له أن يدخل في الصوم في السفر وألا يدخل وكان مخيرا في ذلك إذا دخل فيه أن يخرج منه والتطوع بهذا أولى قال‏.‏

وأخبرنا مسلم بن خالد وعبد المجيد عن بن جريج عن عطاء أن بن عباس كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا قال ويضرب لذلك أمثالا رجل طاف سبعا ولم يوفه فقد ما احتسب أو صلى ركعة فلم يصل أخرى فقد ما احتسب قال‏.‏

وأخبرنا مسلم وعبد المجيد عن بن جريج عن الزبير عن جابر أنه كان لا يرى بالإفطار في صيام التطوع بأسا قال‏.‏

وأخبرنا عبد المجيد عن بن جريج عن عطاء عن أبي الورد مثله قال أبو عمر ذكر هذه الآثار كلها عبد الرزاق عن بن جريج عن عطاء عن عمرو بن دينار عن أبي الزبير سواء وذكر معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن بن عباس قال الصوم كالصدقة أردت أن تصوم فبدا لك وأردت أن تصدق فبدا لك قال عبد الرزاق‏.‏

وأخبرني إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة عن بن عباس قال من أصبح صائما متطوعا إن شاء صام وإن شاء أفطر وليس عليه قضاء وهو قول سلمان وأبي الدرداء ومجاهد وطاوس وعطاء واختلف فيه عن سعيد بن جبير واحتج الشافعي على من أدخل عليه الحجة بالإجماع في حج العمرة والتطوع أنه ليس لأحد الخروج منهما بعد الدخول فيهما وأن من خرج منهما قضاهما وأن الصيام قياس عليه بأن قال الفرق بين ذلك أن من أفسد صلاته أو صيامه أو طوافه كان عاصيا لو تمادى في ذلك فاسدا وهو في الحج مأمور بالتمادي فيه فاسدا ولا يجوز له الخروج منه حتى يتمه على فساده ثم يقضيه وليس كذلك الصوم والصلاة قال أبو عمر من حجة مالك ومن قال بقوله في إيجاب القضاء على المتطوع إذا أفسد صومه عامدا مع حديث بن شهاب المذكور في هذا الباب حديث عائشة وحفصة وقول الله - عز وجل ‏(‏ومن يعظم حرمات الله فهو خير له‏)‏ ‏[‏الحج 30‏]‏‏.‏

وليس من أفطر متعمدا بعد دخوله في الصوم بمعظم لحرم الصوم وقد أبطل عمله فيه وقد قال الله - عز وجل - ‏(‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏)‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

وهو يقتضي عموم الفرض والنافلة كما قال الله - عز وجل - ‏(‏وأتموا الحج والعمرة‏)‏ ‏[‏البقرة 197‏]‏‏.‏

وقد أجمعوا أن المفسد لحجة التطوع أو عمرته أن عليه القضاء فالقياس على هذا الإجماع إيجاب القضاء على مفسد صومه عامدا‏.‏

وأما من احتج في هذه المسألة بقوله ‏(‏ولا تبطلوا أعمالكم‏)‏ ‏[‏محمد 30‏]‏‏.‏

فجاهل بأقوال أهل العلم فيها وذلك أن العلماء فيها على قولين فقول أكثر أهل السنة لا تبطلوها بالرياء أخلصوها لله وقال آخرون ‏(‏ولا تبطلوا أعمالكم‏)‏ ‏[‏محمد 30‏]‏‏.‏

بارتكاب الكبائر وممن روي عنه ذلك أبو العالية وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليأكل وروي فإن شاء أكل وإن كان صائما فلا يأكل فلو كان الفطر في التطوع حسنا لكان أفضل ذلك وأحسنه في إجابة الدعوة التي هي سنة مسنونة فلما لم يكن ذلك كذلك علم أن الفطر في التطوع لا يجوز وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تصوم امرأة وزوجها شاهد من غير شهر رمضان إلا بإذنه وفي هذا أن المتطوع لا يفطر ولا يفطره غيره لأنه لو كان للرجل أن يفسد عليها ما احتاجت إلى إذنه ولو كان مباحا كان إذنه لا معنى له وقد روي عن النبي -عليه السلام- أنه قدم إليه سمن وتمر وهو صائم فقال ردوا تمركم في وعائه وسمنكم في سقائه فإني صائم ولم يفطر بل أتم صيامه إلى الليل على ظاهر قول الله ‏(‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏)‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

ولم يخص فرضا من نافلة وقد روي عن بن عمر أنه قال في المفطر متعمدا في صوم التطوع ذاك اللاعب بدينه أو قال بصومه وقال سعيد بن جبير لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي أن أفطر أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن الجهم قال حدثنا روح بن عبادة قال حدثنا قزعة بن سويد قال حدثنا معروف بن أبي معروف إن عطاء صنع لهم طعاما بذي طوى فقربه إليهم وعطاء صائم ومجاهد صائم وسعيد بن جبير صائم فأفطر عطاء ومجاهد وقال سعيد لأن تختلف الشفار في جوفي أحب إلي من أن أفطر وهو قول بن عمر وإبراهيم النخعي والحسن البصري ومكحول وإليه ذهب أبو ثور وهو قول مالك وأصحابه وقد احتج مالك في موطئه لهذه المسألة وما كان مثلها من صلاة التطوع بما قد أوردنا معناه فيما مضى لهذا الباب‏.‏

باب فدية من أفطر في رمضان من علة

639- ذكر فيه مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي قال مالك ولا أرى ذلك واجبا وأحب إلي أن يفعله إذا كان قويا عليه فمن فدى فإنما يطعم مكان كل يوم مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر الخبر بذلك عن أنس صحيح متصل رواه حماد بن زيد وحماد بن سلمة ومعمر بن راشد عن ثابت البناني قال كبر أنس بن مالك حتى كان لا يطيق الصوم قبل موته بعام أو عامين فكان يفطر ويطعم وروى قتادة عن النضر بن أنس مثله قال كان يطعم عن كل يوم مسكينا قال أبو عمر اختلف عن أنس في صفة إطعامه فروي عنه مد لكل مسكين وروي عنه نصف صاع وروي عنه انه كان يجمعهم فيطعمهم فربما جمع ثلاث مائة مسكين فأطعمهم وجبة واحدة وربما أطعم ثلاثين مسكينا كل ليلة من رمضان يتطوع بذلك وكان يصنع لهم الجفان من الخبز واللحم قال أبو عمر أجمع العلماء على أن للشيخ الكبير والعجوز اللذين لا يطيقان الصوم الإفطار ثم اختلفوا في الواجب عليهما فقال مالك ما ذكرناه عنه في موطئه وروى عنه أشهب قال قال ربيعة في الكبير والمستعطش إذا أفطرا إنما عليهما القضاء ولا إطعام عليهما قال أشهب وقال لي مالك مثله وقال الأوزاعي قال الله - عز وجل - ‏(‏كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم‏)‏ إلى قوله ‏(‏فدية طعام مسكين‏)‏ ‏[‏البقرة 183‏]‏‏.‏

184 قال كان من أطاق الصيام إن شاء صام وإن شاء أطعم فنسختها هذه الآية ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏)‏ ‏[‏البقرة 185‏]‏‏.‏

فثبت الفدية للكبير الذي لا يطيق الصوم أن يطعم لكل يوم مسكينا مدا من حنطة‏.‏

وقال الشافعي الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ويقدر على الكفارة يتصدق عن كل يوم بمد من حنطة قلته خبرا عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقياسا على من لم يطق الحج أنه يحج عنه غيره وليس عمل غيره عمله عن نفسه كما ليس الكفارة كعمله قال والحال التي يترك فيها الكبير الصوم يجهده الجهد غير المحتمل‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا نصف صاع من حنطة ولا شيء عليه غير ذلك‏.‏

وقال أبو ثور أما الشيخ الكبير الذي لا يقدر على الصوم فإنه يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا إذا كان الصوم يجهده وإن كان لا يقدر على الصوم فلا شيء عليه قال أبو عمر قال الله تعالى ‏(‏كتب عليكم الصيام‏)‏ إلى قوله ‏(‏فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم‏)‏ ‏[‏البقرة 183‏]‏‏.‏

184 قوله تعالى ‏(‏يطيقونه‏)‏ هو الثابت بين لوحي المصحف المجتمع عليه وهي القراءة الصحيحة التي يقطع بصحتها ويقطع الفرد بمجيئها وقد اختلفت العلماء بتأويلها قال منهم قائلون هي منسوخة قالوا كان المقيم الصحيح المطيق للصيام مخيرا بين أن يصوم رمضان وبين أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا وإن شاء صام منه ما شاء وأطعم عما شاء فكان الأمر كذلك حتى أنزل الله - عز وجل - ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏)‏ ‏[‏البقرة 184‏]‏‏.‏

فنسخ به ما تقدم من التخيير بين الصوم والإطعام واختلفوا مع هذا في تأويل قوله ‏(‏فمن تطوع خيرا فهو خير له‏)‏ ‏[‏البقرة 184‏]‏‏.‏

فقال بعضهم يطعم مسكينين عن كل يوم مدا مدا أو نصف صاع وقال بعضهم يطعم مسكينا أكثر مما يجب عليه وقال بعضهم أراد بقوله ‏(‏فمن تطوع خيرا فهو خير له‏)‏ ‏[‏البقرة 184‏]‏‏.‏

أن يصوم مع الفدية قال والصوم مع ذلك خير له من ذلك وكل هؤلاء يقولوا الآية منسوخة بقوله ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏)‏ ‏[‏البقرة 185‏]‏‏.‏

وممن قال بذلك عبد الله بن عباس رواه أيوب وخالد الحذاء عن محمد بن سيرين عن بن عباس ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس ورواه بن جريج وعثمان بن عطاء الخرساني عن عطاء عن بن عباس وهو قول سلمة بن الأكوع لم يختلف عنه فيه وقول علقمة وعبيدة وبن سيرين والشعبي وبن شهاب الزهري وهو قول جماعة من أهل الحجاز والعراق إلا أنهم في قولهم أنها منسوخة مفترقون فرقتين منهم من قال منسوخة جملة في الشيخ وفي غيره ومن قول هؤلاء أو بعضهم أن الناس لا يخلون من إقامة أو سفر ومن صحة أو مرض فالصحيح المقيم غير مخير لأن الصوم كان عليه فرضا واجبا لقدرته على ذلك وإقامته ببلده والمسافر يخير على ما تقدم من حكمه في كتاب الله - عز وجل - فإن أفطر فعليه عدة من أيام أخر ولا فدية والمريض لا يخلو من أن يرجى برؤه وصحته فهذا إن صح قضى ما عليه عدة من أيام أخر وإن لم يطمع له بصحة ولا قوة كالشيخ والعجوز اللذين قد انقطعت قوتهما ولا يطمعان أن يثوبا إليهما حال يمكنها من القضاء فلا شيء عليهما من فدية ولا غيرها لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها هذا معنى قول القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومكحول الدمشقي وربيعة بن عبد الرحمن وسعيد بن عبد العزيز ومالك وأصحابه وبه قال أبو ثور ورواية عن قتادة إلا أن مالكا يستحب للشيخ الذي لا يقدر على الصيام إذا قدر على الفدية بالطعام أن يطعم عن كل يوم مدا لمسكين من قوته ولا يرى ذلك عليه واجبا عليه وذهبت الفرقة الأخرى تقرأ ‏(‏يطيقونه‏)‏ وترى الآية منسوخة إلا أن النسخ فيها على بعض المطيقين للصوم وهي محكمة عند بعضهم فقالوا كل من طاف الصوم فلا مشقة تضر به فالصوم واجب عليه وكل من لم يطق الصوم إلا بجهد ومشقة مضرة به فله أن يفطر ويفتدي لقول الله - عز وجل - ‏(‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏)‏ ‏[‏البقرة 185‏]‏‏.‏

قالوا وذلك في الشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع الذين لا يطيقون الصيام إلا بجهد ومشقة خوفا على الولد ذهب إلى هذا جماعة من العلماء منهم أنس بن مالك وبن عباس في رواية وعطاء ومجاهد وطاوس وعكرمة وشريح كان يطعم عن نفسه ولا يصوم كفعل أنس بن مالك وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي والأوزاعي والشافعي وطائفة من أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد وأبو الزناد وبن شهاب في رواية وهو معنى قراءة من قرأ ‏(‏يطيقونه‏)‏ لأن القراءتين على هذا التأويل غير متناقضتين وهذا شأن الحروف السبعة يختلف سماعها ويتفق مفهومها فقراءة من قرأ ‏(‏يطيقونه‏)‏ يعني بمشقة وهو بمعنى يطوقونه أي يتكلفونه ولا يطيقونه إلا بمشقة وعن بن شهاب رواية أخرى وهي أصح وذلك إن كان يرى الآية في التخيير بين الإطعام والصيام للمسافر والمريض خاصة وقرأها منسوخة كما ذكرنا من قوله - عز وجل - ‏(‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏)‏ ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ قال القضاء باق ونسخ الخيار قال أبو عمر قول بن شهاب هذا كالقول الأول الذي حكيناه عن ربيعة ومالك ومن ذكرنا معهم في ذلك ومن حجة من قال بوجوب الفدية ظاهر قول الله - عز وجل - ‏(‏وعلى الذين يطيقونه‏)‏ يريد يطيقونه ويشق عليهم ويضر بهم ‏(‏فدية طعام‏)‏ قال لو أفطر هؤلاء في الآية المحكمة ألزموا الفدية بدلا من الصوم كما ألزم من لا يطيق الحج ببدنه أن يحج غيره بماله وكما ألزم الجميع الجاني على عضو مخوف الدية بدلا من القصاص في قول الله - عز وجل - ‏(‏والجروح قصاص‏)‏ ‏[‏المائدة 45‏]‏‏.‏

قال أبو عمر الاحتجاج بهذه الأقوال يطول وقد أكثروا فيها والصحيح في النظر -والله أعلم- قول من قال إن الفدية غير واجبة على من لا يطيق الصيام لأن الله تعالى لم يوجب الصيام على من لا يطيقه لأنه لم يوجب فرضا إلا على من أطاقه والعاجز عن الصوم كالعاجز عن القيام في الصلاة وكالأعمى العاجز عن النظر لا يكلفه‏.‏

وأما الفدية فلم تجب بكتاب مجتمع على تأويله ولا سنة يفقهها من تجب الحجة بفقهه ولا إجماع في ذلك عن الصحابة ولا عن من بعدهم والفرائض لا تجب إلا من هذه الوجوه والذمة بريئة قالوا أحب أن لا يوجب فيها شيء إلا بدليل لا تنازع فيه والاختلاف عن السلف في إيجاب الفدية موجود والروايات في ذلك عن بن عباس مختلفة وحديث علي أن لا يصح عنه وحديث أنس بن مالك يحتمل أن يكون طعامه عن نفسه تبرعا وتطوعا وهو الظاهر في الأخبار عنه في ذلك‏.‏

وأما الذين كانوا يقرؤون ‏(‏على الذين يطوقونه فدية طعام مساكين‏)‏ فهذه القراءة رويت عن بن عباس من طرق وعن عائشة كذلك كان يقرأ مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة وجماعة من التابعين وغيرهم وكلهم يذهب إلى أن الآية محكمة في الشيخ والعجوز والحامل والمرضع الذين يكلفون الصيام ولا يطيقونه وسيأتي ذكر الحامل والمرضع في هذا الباب إن شاء الله ومعنى ‏(‏يطيقونه‏)‏ عند جميعهم يكلفونه ثم اختلفوا فقال بعضهم يكلفونه ولا يطيقونه إلا بجهد ومشقة مضرة فهؤلاء جعلت عليهم الفدية وهذا القول نحو ما قدمنا عن الذين ذهبوا إلى ذلك ممن قرأ القراءة الثابتة في المصحف ‏(‏يطيقونه‏)‏ وقال بعضهم يكلفونه ولا يطيقونه على حال النية فألزموا الفدية بدلا من الصوم وذكروا نحو ما ذكرنا من الحجة ومعارضات لم أر لذكرها وجها لأن القراءة غير ثابتة في المصحف ولا يقطع بها على الله تعالى وإنما مجراها مجرى أخبار الآحاد العدول في الأحكام وفيما ذكرنا كفاية ودلالة على ما عنه سكتنا وبالله توفيقنا‏.‏

وأما حديث مالك في هذا الباب‏.‏

640- أنه بلغه أن عبد الله بن عمر سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة بمد النبي صلى الله عليه وسلم قال مالك وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل ‏(‏فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر‏)‏ ويرون ذلك مرضا من الأمراض مع الخوف على ولدها قال أبو عمر أما الخبر عن بن عمر بما ذكر مالك أنه بلغه فقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن بن عمر وحماد بن سلمة عن أيوب وعبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر أنه كان يقول في الحامل والمرضع يفطران وتطعمان عن كل يوم مدا لمسكين ومعمر عن أيوب عن نافع عن بن عمر قال الحامل إذا خشيت على نفسها في رمضان تفطر وتطعم ولا قضاء عليها وهو قول سعيد بن جبير والقاسم بن محمد وطائفة قال إسحاق بن راهويه والذي أذهب إليه في الحامل والمرضع أن يفطرا ويطعما ولا قضاء عليهما اتباعا لابن عباس وبن عمر قال أبو عمر رواه عن بن عباس سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة بأسانيد حسان أنهما تفطران وتطعمان ولا قضاء عليهما وقال بن عباس خمسة لهم الفطر في شهر رمضان المريض والمسافر والحامل والمرضع والكبير فثلاثة عليهم الفدية ولا قضاء عليهم الحامل والمرضع والكبير قال الوليد فذكرت هذا الحديث لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فقال الحمل والرضاع عندنا مرض من الأمراض تقضيان ولا إطعام عليهما روي ذلك عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والضحاك والأوزاعي وربيعة والثوري وأبي حنيفة وأصحابه والليث والطبري وبه قال أبو ثور وأبو عبيد وهو قول مالك في المرضع وأحد قولي الشافعي في الحامل والثالث عليها القضاء والإطعام معا قال أبو عبد الله المروزي لا نعلم أحدا صح عنه أنه جمع عليهما الأمرين القضاء والإطعام إلا مجاهدا قال وروي ذلك عن عطاء وعن بن عمر أيضا ولا يصح عنهما والصحيح عن بن عمر فيها الإطعام ولا قضاء ويقول مجاهد في جمع القضاء والإطعام عليهما بقول الشافعي في رواية المزني عنه وروى عنه البويطي أن الحامل لا إطعام عليها وهي كالمريض تقضي عدة من أيام أخر وهو قول أحمد بن حنبل كقول الشافعي في رواية المزني قال أحمد الحامل إذا خافت على جنينها والمرضع إذا خافت على ولدها أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا قال ومن عجز عن الصوم لكبر أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا والقول الراجح الفرق بين الحامل والمرضع قال مالك الحامل كالمريض تفطر وتقضي ولا إطعام عليها والمرضع تفطر وتقضي وتطعم عن كل يوم مدا من بر وقد ذكرنا قوله الآخر في المرضع وقال بعض أصحابه إن الإطعام في المرضع استحباب قال أبو عمر الفقهاء في الإطعام في هذا الباب وفي سائر أبواب الصيام وسائر الكفارات على أصولهم كل على أصله والإطعام عند الحجازيين مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم وعند العراقيين نصف صاع‏.‏

641- وأما حديث مالك في هذا الباب عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه كان يقول من كان عليه قضاء رمضان فلم يقضه وهو قوي على صيامه حتى جاء رمضان آخر فإنه يطعم مكان كل يوم مسكينا مدا من حنطة وعليه مع ذلك القضاء وعن مالك أنه بلغه عن سعيد بن جبير مثل ذلك قال أبو عمر ليس في هذا الباب عند مالك شيء عن أحد من الصحابة ولا أعلم فيه حديثا مسندا وما ذكر فيه أنه بلغه عن سعيد بن جبير فهو محفوظ عن سعيد بن جبير رواه بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير‏.‏

وأما أقاويل الفقهاء في هذه المسألة فقال مالك والثوري والليث بن سعد والشافعي والحسن بن حي والأوزاعي إن فرط في رمضان حتى دخل رمضان آخر صام الآخر ثم قضى ما كان عليه من الأول وأطعم عن كل يوم مسكينا وروي ذلك عن بن عباس وبن عمر وأبي هريرة وعطاء والقاسم بن محمد وبن شهاب الزهري وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق والكوفيون نصف صاع والحجازيون مد كل على أصله وذكر يحيى بن أكثم أنه وجب في هذه المسألة الإطعام عن ستة من الصحابة لم يعلم لهم منهم مخالفا‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه يصوم رمضان الثاني ثم يقضي الأول ولا فدية عليه سواء قوي على الصيام أم لا وهو قول الحسن وإبراهيم النخعي وبه قال داود ليس على من أوجب الفدية في هذه المسألة حجة من كتاب ولا سنة ولا إجماع وقال أبو جعفر الطحاوي قال الله تعالى ‏(‏فعدة من أيام أخر‏)‏ فأوجب القضاء دون غيره فلا يجوز زيادة الطعام إلا أن هذه الجماعة من الصحابة قد اتفقت على وجوب الإطعام بالتفريط إلى دخول رمضان آخر قال أبو عمر التفريط أن يكون صحيحا لا علة تمنعه من الصيام حتى يدخل رمضان آخر واختلفوا فيما يجب عليه إن لم يصح من مرضه حتى دخل الرمضان المقبل فروي عن بن عباس وبن عمر وسعيد بن جبير وقتادة يصوم الثاني إذا أدركه صحيحا ويطعم عن الأول ولا قضاء عليه وقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وطاوس وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة والثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق يصوم الثاني ثم يقضي الأول ولا فدية عليه لأنه لم يفرط وقال الأوزاعي إذا فرط في قضاء رمضان الأول ومرض في الآخر حتى انقضى ثم مات فإنه يطعم عن الأول مدين مدا لتضييعه ومدا للصيام ويطعم عن الآخر مدا لكل يوم‏.‏

باب جامع قضاء الصيام

642- ذكر فيه مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول إن كان ليكون علي الصيام من رمضان فما أستطيع أن أصومه حتى يأتي شعبان قال أبو عمر حملها - رضي الله عنها - على ذلك الأخذ بالرخصة والتوسعة لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت القضاء كما ان وقت الصلاة له طرفان ومثل ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط في اليقظة على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وقد أجمع العلماء على قضاء ما عليه من إتمام رمضان في شعبان بعده أنه مؤد لفريضة غير مفرط وقد قيل إن ذلك كان لشغلها برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس بشيء لأن شغل سائر أزواج النبي ‏(‏عليه السلام‏)‏ كشغلها أو قريبا منه لأنه كان صلى الله عليه وسلم أعدل الناس بين نسائه في كل ما يجب لهن عليه وكان مع ذلك يخاف أن يؤاخذ على ما في قلبه من حب من مالت نفسه إليها أكثر منه إلى غيرها وكان يقول إذا قسم بينهن شيئا اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب قال الله - عز وجل ‏(‏لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم‏)‏ ‏[‏الأنفال 63‏]‏‏.‏

وقد يجوز أن يشتبه على قائلها ذلك القول بحديث السدي عن عبد الله البهي عن عائشة قالت ما كنت أقضي ما يكون علي من رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله في هذا الحديث حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يخبر من وجه يحتج به إن شاء الله‏.‏

باب صيام اليوم الذي يشك فيه

643- ذكر فيه مالك أنه سمع أهل العلم ينهون أن يصام اليوم الذي يشك فيه من شعبان إذا نوى به صيام رمضان ويرون أن على من صامه على غير رؤية ثم جاء الثبت أنه من رمضان أن عليه قضاءه ولا يرون بصيامه تطوعا بأسا قال مالك وهذا الأمر عندنا والذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا قال أبو عمر هذا أعدل المذاهب في هذه المسألة إن شاء الله وعليه جمهور العلماء وممن روي عنه كراهة صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وحذيفة وبن مسعود وبن عباس وأبو هريرة وأنس بن مالك ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو وائل والشعبي وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وبن سيرين وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه وداود بن علي والحجة في ذلك من طريق الأثر حديث عمار قال من صام هذا اليوم - يعني يوم الشك - فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وقال الليث بن سعد من أصبح صائما في آخر يوم من شعبان متطوعا أو احتياطا كالدخول لدخول رمضان إذا أصبح مفطرا إلا أنه لم يطعم ثم جاءهم الخبر أنه من رمضان فإنهم يتمون صيامهم ولا قضاء عليهم قال الليث وإن لم يأتهم الخبر إلا بعد ذلك اليوم أو بعد ما أمسوا كان عليهم قضاء ذلك اليوم وكان عبد الله بن عمر يصومه إذا حال دون ذلك منظر الهلال ليلة ثلاثين من شعبان غيم أو سحاب وإن لم يكن ذلك لم يصمه وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وروى عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تصوم اليوم الذي يغم فيه على الناس نحو مذهب بن عمر وروت عن عائشة أنها قالت لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان وهذا صوم اليوم الذي يشك فيه‏.‏

وقال أحمد بن حنبل الذي أذهب إليه في هذا فعل بن عمر ثم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن نافع عن بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له قال نافع فكان عبد الله إذا كان من شعبان تسع وعشرون بعث من ينظر الهلال فإن رآه فذلك وإن لم ير دون منظره سحاب أو قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما قال أحمد إن كان صحو ولم يكن في السماء علة أكملوا شعبان ثلاثين يوما وإن كان في السماء علة ليلة الشك فأصبح الرجل وقد أجمع الصيام من الليل وصام فإذا هو من رمضان أجزأه وإن لم يجمع الصيام من الليل وقال إن صام الناس صمت وأصبح على ذلك وصامه لم يجزه لحديث حفصة لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل قال أبو عمر كل من أجمع الصيام بلا تبييت أجاز قول من قال إن كان غدا رمضان صمت وأصبح على ذلك صائما من غير يقين بدخول رمضان وبعضهم يقول قد وفق لصيامه وقد مضت هذه المسألة في صدر هذا الكتاب وذكر البويطي والربيع عن الشافعي قال لا أحب لأحد أن يتعمد صيام يوم الشك تطوعا ومن كان يسدد الصيام أو كان يصوم أياما جعلها على نفسه فوافق ذلك اليوم فلا بأس أن يصومه وكرهت طائفة من أهل الحديث صيام يوم الشك تطوعا لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم وهو حديث صحيح من جهة النقل وقد قيل إن ذلك كراهة ان يدخل صيام شعبان برمضان واستحب بن عباس وجماعة من السلف - رحمهم الله - أن يفصلوا بين شعبان ورمضان بفطر يوم أو أيام كما كانوا يستحبون أن يفصلوا بين صلاة الفريضة والنافلة بكلام أو قيام أو مشي أو تقدم أو تأخر من المكان وقد روى الدراوردي وغيره عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا وهو حديث صحيح ‏!‏ إلا أن الذي عليه جماعة الفتوى من فقهاء الأمصار أنه لا بأس بصيام يوم الشك تطوعا كما قال مالك - رحمه الله - قال أبو عمر من هنا قال يحيى بن معين كانوا يتقون حديث العلاء بن عبد الرحمن وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام شعبان كله وهذه حجة لهم ومن حديث عائشة - رضي الله عنها - ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة وروى الثوري عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبي سلمة عن أم سلمة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان وقال عبد الله بن المبارك جائز في كلام العرب أن يقال صام الشهر كله إذا صام أكثره إن شاء الله تعالى‏.‏

باب جامع الصيام

644- ذكر فيه مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان قال أبو عمر لا تنازع بين العلماء في هذا الحديث وليس فيه ما يشكل وصيام غير رمضان تطوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر‏.‏

645- وذكر عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم قال أبو عمر الصيام في الشريعة الإمساك عن الأكل والشرب والجماع هذا فرضه عند جميع الأئمة وسننه اجتناب قول الزور واللغو والرفث وأصله في اللغة الإمساك مطلقا وكل من أمسك عن شيء فهو صائم منه ألا ترى قول الله تعالى ‏(‏إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا‏)‏ ‏[‏مريم 26‏]‏‏.‏

وقوله جنة فهي الوقاية والستر عن النار وحسبك بهذا فضلا للصائم وروي عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصيام جنة يستجن بها العبد من النار وقوله فلا يرفث فالرفث هنا الكلام القبيح والشتم والخنا والغيبة والجفاء وأن تغضب صاحبك بما يسوءه والمراء ونحو ذلك كله ومعنى لا يجهل قريب مما يصيبنا من الشتم والسباب والقباح كقول القائل‏:‏

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

واللغو هو الباطل قال الله - عز وجل - ‏(‏وإذا مروا باللغو مروا كراما‏)‏ ‏[‏الفرقان 72‏]‏‏.‏

قال العجاج ‏(‏عن اللغا ورفث التكلم‏)‏ وروي عن أبي العالية أنه قال خرجنا مع بن عباس حجاجا فأحرم وأحرمنا ثم نزل يرتجز يسوق الإبل ويقول ‏(‏وهن يمشين بنا هميسا‏.‏‏.‏‏.‏ إن تصدق الطير تنك لميسا فقلت يا أبا عباس ألست محرما قال بلى فقلت هذا الكلام الذي تكلم به قال لا يكون الرفث إلا ما واجهت به النساء وليس معنا نساء واختلف العلماء في قوله - عز وجل - ‏(‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏)‏ ‏[‏البقرة 197‏]‏‏.‏

فأكثر العلماء على أن الرفث ها هنا جماع النساء وكذلك لم يختلفوا في قوله تعالى ‏(‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏)‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

أنه الجماع‏.‏

وأما قوله فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم ففيه قولان أحدهما أن يقول الذي يريد مشاتمته ومقاتلته إني صائم وصومي يمنعني من مجاوبتك لأني أصون صومي عن الخنا والزور والمعنى في المقاتلة مقاتلته بلسانه وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه والمعنى الثاني أن الصائم يقول في نفسه إني صائم يا نفسي فلا سبيل إلى شفاء غيظك بالمشاتمة ولا يعلن بقوله إني صائم لما فيه من الرياء واطلاع الناس عليه لأن الصوم من العمل الذي لا يظهر وكذلك يجزئ الله الصائم أجره بغير حساب ومعنى قوله من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه فمعناه الكراهة والتحذير كما جاء من شرب الخمر فليشقص الخنازير أي يذبحها وليس هذا على الأمر بتشقيص الخنازير ولكنه على تعظيم إثم شارب الخمر وكذلك من اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ولكنه باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه‏.‏

646- عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به قوله لخلوف فم الصائم يعني ما يعتريه في آخر النهار من التغير وأكثر ذلك في شدة الحر وقوله أطيب عند الله من ريح المسك يريد أزكى عند الله وأقرب إليه من ريح المسك عندكم يحضهم عليه ويرغبهم فيه وهذا في فضل الصيام وثواب الصائم وقوله الصيام لي وأنا أجزي به معناه والله أعلم أن الصوم لا يظهر من بن آدم في قول ولا عمل وإنما هو نية ينطوي عليها لا يعلمها إلا الله وليست مما يظهر فيكتبها الحفظة كما تكتب الذكر والصلاة والصدقة وسائر أعمال الظاهر لأن الصوم في الشريعة ليس هو بالإمساك عن الطعام والشراب دون استشعار النية واعتقاد النية بأن تركه الطعام والشراب والجماع ابتغاء ثواب الله ورغبته فيما ندب إليه تزلفا وقربة منه كل ذلك منه إيمانا واحتسابا لا يريد به غير الله - عز وجل - ومن لم ينو بصومه أنه لله عز وجل فليس بصيام فلهذا قلنا إنه لا تطلع عليه الحفظة لأن التارك للأكل والشرب ليس بصائم في الشرع إلا أن ينوي بفعله ذلك التقرب إلى الله تعالى بما أمره به ورضيه من تركه طعامه وشرابه له وحده لا شريك له لا لأحد سواه فمعنى قوله الصوم لي والله أعلم وكل ما أريد به وجه الله فهو له ولكنه ظاهر والصوم ليس بظاهر وفي قوله الصوم لي فضل عظيم للصوم لأنه لا يضاف إليه إلا أكرم الأمور وأفضل الأعمال كما قال بيت الله في الكعبة وكما قال تعالى ‏(‏ونفخت فيه من روحي‏)‏ ‏[‏الحجر 29‏]‏‏.‏

وقيل لعيسى -عليه السلام- روح الله وكما قال ‏(‏صبغة الله‏)‏ ‏[‏البقرة 138‏]‏‏.‏

وكما قال ‏(‏وطهر بيتي للطائفين‏)‏ ‏[‏الحج 26‏]‏‏.‏

ويقال دين الله وبيت الله ومثل هذا كثير والصوم في لسان العرب الصبر قال بن الأنباري إنما سمي الصوم صبرا لأنه حبس النفس عن المطاعم والمشارب والمناكح والشهوات وقال قال -عليه السلام- من صام شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر يعني بشهر الصبر شهر رمضان وقد يسمى الصائم سائحا ومنه قوله تعالى ‏(‏السائحون‏)‏ ‏[‏التوبة 112‏]‏‏.‏ يعني الصائمين المصلين ومنه قوله تعالى ‏(‏عابدات سائحات‏)‏ ‏[‏التحريم 5‏]‏‏.‏ وللصوم وجوه في لسان العرب‏.‏

647- مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين قال أبو عمر هذا الحديث ذكرناه في التمهيد لأن مثله لا يكون رأيا ولا يدرك إلا بتوقيف وقد روي مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سهيل وغيره من رواية مالك أيضا كذلك هو في موطأ معن بن عيسى عن مالك مرفوعا وقد ذكرنا طرقه مرفوعة من وجوه في التمهيد ومن أحسنها ما حدثنا سعيد بن نصر قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا قالون قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير القارئ عن نافع عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استهل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين قال أبو عمر صفدت الشياطين وجهه عندي والله أعلم أنه على المجاز وإن كان قد روي في بعض الأحاديث سلسلت فهو عندي مجاز والمعنى فيه والله أعلم أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي ولا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليهم في سائر السنة‏.‏

وأما الصفد ‏(‏بتخفيف الفاء‏)‏ فهو الغل عند العرب وقد روي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة قبلها خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله لهم كل يوم جنته ثم يقول يوشك عبادي الصائمون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ثم يصيرون إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم آخر كل ليلة قيل يا رسول الله ‏!‏ أهي ليلة القدر قال لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله وقد ذكرنا أسانيد هذا الحديث في التمهيد وروى أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء وتغل فيه مردة الشياطين لله فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم وقد ذكرناه من طرق في التمهيد وذكرنا هناك أيضا قوله -عليه السلام- تغلق في رمضان أبواب النار وتفتح أبواب الجنة وتصفد فيه الشياطين وينادي مناد كل ليلة يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر انصرف‏.‏

648- وذكر مالك في هذا الباب أنه سمع أهل العلم لا يكرهون السواك للصائم في رمضان في ساعة من ساعات النهار لا في أوله ولا في آخره ولم أسمع أحدا من أهل العلم يكره ذلك ولا ينهى عنه قال أبو عمر اختلف الفقهاء في السواك للصائم فرخص فيه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وبن علية وهو قول النخعي ومحمد بن سيرين وعروة بن الزبير ورواية الرخصة فيه أيضا عن عمر وبن عباس وحجة من ذهب إلى هذا قوله -عليه السلام- لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك لكل صلاة ولم يخص رمضان من غيره ولا خص من السواك نوعا رطبا ولا يابسا ولا صدر النهار ولا آخره وقد روي عنه -عليه السلام- أنه كان يستاك وهو صائم وروي عنه -عليه السلام- أنه قال أفضل خصال الصائم للصائم السواك وكان مالك - رحمه الله - يكره السواك الرطب للصائم في أول النهار وآخره وهو قول أحمد وإسحاق وروي ذلك عن زياد بن يزيد بن ميسرة والشعبي والحكم بن عتيبة ورخص في السواك الرطب الثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وهو قول مجاهد وإبراهيم وعطاء وبن سيرين وروي ذلك عن بن عمر وقال بن علية السواك سنة الصائم والمفطر والرطب واليابس سواء لأنه ليس بمأكول ولا مشروب‏.‏

وقال الشافعي أحب السواك عند كل وضوء في الليل والنهار وعند تغيير الفم إلا أني أكرهه للصائم آخر النهار ومن أجل الحديث في خلوف فم الصائم وبه قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وروي ذلك عن عطاء ومجاهد وذكر مالك في صيام ستة أيام بعد الفطر أنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها قال ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك قال أبو عمر في هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث انفرد به عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنه صام الدهر أخبرناه عبد الله بن محمد قال حدثنا محمد بن بكر قال أخبرنا أبو داود قال حدثنا النفيلي‏.‏

وأخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا خلاد بن أسلم قالا حدثنا عبد العزيز بن محمد عن صفوان بن سليم وسعد بن سعيد عن عمر بن ثابت الأنصاري عن أبي أيوب صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر‏.‏

وقال أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثنا أبو عبد الرحمن المروي قال حدثنا شعبة بن الحجاج عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال فكأنما صام السنة كلها هكذا ذكره موقوفا على أبي أيوب وقد روي عن يحيى بن سعيد عن عمر بن ثابت بإسناده مثله موقوفا قال أبو عمر انفرد بهذا الحديث عمر بن ثابت الأنصاري وهو من ثقات أهل المدينة قال أبو حاتم الرازي عمر بن ثابت الأنصاري سمع أبا أيوب الأنصاري روى عنه الزهري وصفوان بن سليم وصالح بن كيسان ومالك بن أنس وسعد وعبد ربه ابنا سعيد وحديث ثوبان يعضد حديث عمر بن ثابت هذا أخبرنا محمد بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن معاوية قال حدثنا محمد بن شعيب بن سابور قال حدثنا يحيى بن الحارث قال حدثنا أبو أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله يقول جعل الله الحسنة بعشر فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة قال أبو عمر لم يبلغ مالكا حديث أبي أيوب على أنه حديث مدني والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة وكان - رحمه الله - متحفظا كثير الاحتياط للدين‏.‏

وأما صيام الستة الأيام من شوال على طلب الفضل وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان - رضي الله عنه - فإن مالكا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جنة وفضله معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى وهو عمل بر وخير وقد قال الله عز وجل ‏(‏وافعلوا الخير‏)‏ ‏[‏الحج 77‏]‏‏.‏

ومالك لا يجهل شيئا من هذا ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء إذا استمر ذلك وخشي أن يعدوه من فرائض الصيام مضافا إلى رمضان وما أظن مالكا جهل الحديث والله أعلم لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت وقد قيل إنه روى عنه مالك ولولا علمه به ما أنكره وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه وقد يمكن أن يكون جهل الحديث ولو علمه لقال به والله أعلم‏.‏

وقال مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه قال أبو عمر اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في صيام يوم الجمعة ف روى بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال وما رأيته يفطر يوم الجمعة وهو حديث صحيح وقد روي عن بن عمر أنه قال ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مفطرا يوم جمعة قط ذكره بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث بن أبي سليم عن عمير بن أبي عمير عن بن عمر وروي عن بن عباس أنه كان يصوم يوم الجمعة ويواظب عليه‏.‏

وأما الذي ذكره مالك فيقولون إنه محمد بن المنكدر وقيل إنه صفوان بن سليم عن رجل من بني جشم أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام يوم الجمعة كتب له عشرة أيام عددهن من أيام الآخرة لا تشاكلهن أيام الدنيا رواه علي بن المديني وغيره عن الدراوردي‏.‏

وأما الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن صيام يوم الجمعة فحديث جابر على أنه قد روي عنه أنه سئل عن صيام يوم الجمعة فقال قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد بصوم وحديث أبي هريرة وغيره فأما حديث جابر ف حدثنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثنا حمزة بن محمد بن علي قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا سفيان عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن محمد بن عباد قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت‏.‏

وحدثنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا يحيى القطان قال حدثنا بن جريج قال أخبرني محمد بن عباد بن جعفر قال قلت لجابر أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم قال أي ورب الكعبة هكذا رواه فأسقط من الإسناد عبد الحميد بن جبير بن شيبة وتابعه على ذلك النضر بن شميل وحفص بن غياث‏.‏

وأما حديث أبي هريرة ف حدثنا عبد الله قال حدثنا حمزة قال حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا محمد بن منصور والحارث بن مسكين قراءة عليه - واللفظ له - عن سفيان عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن عبد الله بن عمرو القارئ قال سمعت أبا هريرة يقول ما أنا نهيت عن صيام يوم الجمعة محمد ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ ورب هذا البيت نهى عنه وعلى هذا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا أن يصام قبله أو بعده وروت جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وهذه الآثار كلها ذكرها النسائي وأبو داود وبن أبي شيبة والأصل في صوم يوم الجمعة أنه عمل بر لا يمتنع منه إلا بدليل لا معارض له‏.‏

وأما الذين كرهوا صيامه من الصحابة والتابعين فبشهود يوم العيد فلذلك كرهوا صومه ومنهم من قال يفطره ليقوى على الصلاة ذلك اليوم كما قال بن عمر لا يصام يوم عرفة بعرفة من أجل القوة على الدعاء ذكر بن أبي شيبة عن عمران بن ظبيان عن حكيم بن سعد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال من كان منكم متطوعا من الشهر أياما فليكن في صومه يوم الخميس ولا يصوم يوم الجمعة فإنه يوم طعام وشراب وذكر فيجمع الله يومين صالحين يوم صيامه ويوم نسكه مع المسلمين وذكره الشعبي ومجاهد أن يتعمد يوم الجمعة بصوم وذكر عن جرير بن مغيرة عن إبراهيم أنهم كرهوا صوم يوم الجمعة ليقووا على الصلاة وعن وكيع عن سفيان عن عاصم عن بن سيرين قال لا تخصوا يوم الجمعة بصوم بين الأيام ولا ليلة الجمعة بقيام بين الليالي وممن كره صوم يوم الجمعة الزهري وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال الشافعي لا يتبين لي أنه نهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار تم كتاب الصيام بحمد الله وعونه وتأييده ونصره‏.‏

كتاب الاعتكاف

باب ذكر الاعتكاف

649- ذكر فيه مالك عن بن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان قال أبو عمر قد ذكرنا في التمهيد اختلاف أصحاب مالك عليه في إسناد هذا الحديث ومتنه واختلاف أصحاب بن شهاب عليه في ذلك أيضا وبينا ذلك كله هنالك والحمد لله‏.‏

وأما الاعتكاف في كلام العرب فهو القيام على الشيء والمواظبة عليه والملازمة له‏.‏

وأما في الشريعة فمعناه الإقامة على الطاعة وعمل البر على حسب ما ورد من سنن الاعتكاف فما أجمع العلماء عليه من ذلك أن الاعتكاف جائز الدهر كله إلا الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها فإنها موضع اختلاف لاختلافهم في جواز الاعتكاف بغير صوم وأجمعوا أن سنة الاعتكاف المندوب إليها شهر رمضان كله أو بعضه وأنه جائز في السنة كلها إلا ما ذكرنا وأجمعوا أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد لقوله تعالى ‏(‏وأنتم عاكفون في المساجد‏)‏ في الآية المذكورة يعني في ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وإن كان لفظه العموم فقالوا لا اعتكاف إلا في مسجد نبي كالكعبة أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيت المقدس لا غير وروي هذا القول عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ومن حجتهما أن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في مسجده وكان القصد والإشارة إلى نوع ذلك المسجد مما بناه نبي وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة لأن الإشارة في الآيات عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد روي هذا القول عن علي بن أبي طالب وبن مسعود وبه قال عروة بن الزبير والحكم بن عيينة وحماد والزهري وأبو جعفر محمد بن علي وهو أحد قولي مالك وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز روي عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وإبراهيم النخعي وهمام بن الحارث وأبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي الأحوص والشعبي وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والثوري وهو أحد قولي مالك وبه يقول بن علية وداود والطبري وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد‏.‏

650- وقال مالك في الموطأ أنه سأل بن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف فقال نعم لا بأس بذلك قال مالك الأمر عندنا الذي لا اختلاف فيه أنه لا يكره الاعتكاف في كل مسجد يجمع فيه ولا أراه كره الاعتكاف في المساجد التي لا يجمع فيها وإلا كراهية أن يخرج المعتكف من مسجده الذي اعتكف فيه إلى الجمعة أو يدعها فإن كان مسجدا لا يجمع فيه الجمعة ولا يجب على صاحبة إتيان الجمعة في مسجد سواه فإني لا أرى بأسا بالاعتكاف فيه لأن الله تبارك وتعالى قال ‏(‏وأنتم عاكفون في المساجد‏)‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

فعم الله المساجد كلها ولم يخص شيئا منها‏.‏

وقال الشافعي لا يعتكف في غير المسجد الجامع إلا من الجمعة إلى المسجد قال والاعتكاف في المسجد الجامع أحب إلي قال ويعتكف المسافر والعبد والمرأة حيث شاؤوا ولا اعتكاف إلا في مسجد وذكر بن عبد الحكم عن مالك قال لا يعتكف أحد إلا في رحاب المسجد التي يجوز فيها الصلاة واختلفوا في مكان اعتكاف النساء ف قال الشافعي ما قدمنا عنه‏.‏

وقال مالك تعتكف المرأة في مسجد الجماعة ولا يعجبه اعتكافها في مسجد بيتها وقال الكوفيون لا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد الجماعة وسنزيد هذا بيانا في باب قضاء الاعتكاف إن شاء الله وهناك ذكر مالك هذه المسألة قال أبو عمر في ترجيل عائشة شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف دليل على أن اليدين من المرأة ليستا بعورة ولو كانتا عورة لم تباشره بهما في اعتكافه لأن المعتكف منهي عن المباشرة قال الله عز وجل ‏(‏ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد‏)‏ ‏[‏البقرة 187‏]‏‏.‏

ويدلك على ذلك أيضا أنها تنهى في الإحرام عن لباس القفازين وتؤمر بستر ما عدا وجهها وكفيها وهكذا حكمها في الصلاة تكشف وجهها وكفيها وقد مضى ذكر ما هو عورة في كتاب الصلاة وقد روى تميم بن سلمة وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور وأنا في حجرتي فأرجله وأنا حائض وفي ذلك دليل على أن الحائض طاهر غير نجسة إلا موضع النجاسة منها وقد مضى هذا المعنى مجودا في باب الحيض‏.‏

وأما قولها وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك دليل على أن المعتكف لا يشتغل بغير ملازمة المسجد للصلوات وتلاوة القرآن وذكر الله أو السكوت ففيه سلامة ولا يخرج من المسجد إلا لحاجة الإنسان كل ما لا غنى بالإنسان عنه من منافعه ومصالحه وما لا يقضيه عنه غيره ومعنى ترجيل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمال كل ما كان فيه صلاح بدنه من الغذاء وغيره مما يحتاج إليه ومن جهة النظر فإن المعتكف ناذر جاعل على نفسه المقام في المسجد لطاعة الله فواجب عليه الوفاء بذلك وأن لا يشتغل بما يلهيه عن الذكر والصلاة ولا يخرج إلا لضرورة كالمرض البين والحيض في النساء وهذا في معنى خروجه صلى الله عليه وسلم لحاجة الإنسان لأنها ضرورة واختلف قول مالك في المعتكف يخرج لعذر غير ضرورة مثل أن يموت أبوه أو ابنه ولا يكون له من يقوم به أو شراء طعام يفطر عليه أو غسل النجاسة من ثوبه فروي عنه أنه من فعل ذلك كله يبتدئ اعتكافه وروي عنه أنه يبني وهو الأصح عندي قياسا على حاجة الإنسان‏.‏

651- وأما حديثه عن بن شهاب عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة كانت إذا اعتكفت لا تسأل عن المريض إلا وهي تمشي لا تقف فقد ذكرنا في التمهيد علل إسناده لأن عبد الرحمن بن مهدي والقطان روياه عن مالك عن بن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة ورواه أكثر أصحاب مالك كما رواه يحيى عن مالك عن عمرة عن عائشة لم يذكروا عروة ورواه الشافعي وطائفة من أصحاب مالك عن مالك عن عروة عن عائشة وبين أصحاب بن شهاب فيه وفي المسند الذي قبله ضروب من الاضطراب قد ذكرنا أكثر ذلك في باب بن شهاب من التمهيد وفي حديثها هذا دليل على أن المريض لا يجوز عندها أن يعوده المعتكف ولا يخرج لعيادته له عن اعتكافه‏.‏

وأما قول مالك لا يأتي المعتكف حاجة ولا يخرج لها ولا يعين أحدا عليها ولا يشتغل بتجارة ولا يعرض لها ولا بأس أن يأمر بمصلحة أهله وبيع ماله وصلاح ضيعته وقال بن القاسم عنه لا يقوم المعتكف لرجل يعزيه ولا يهنيه ولا يشهد عقد نكاح يقوم له من مكانه ولا يشتغل بالكلام في العلم وكتابته وجائز له ما خف من الشراء قال في موطئه ولو كان المعتكف خارجا لحاجة أحد لكان أحق ما يخرج إليه عيادة المريض والصلاة على الجنائز واتباعها ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف‏.‏

652- مالك عن بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذهب لحاجة الإنسان في البيوت قال مالك لا يخرج المعتكف مع جنازة أبويه‏.‏

653- وذكر أنه سأل بن شهاب عن الرجل يعتكف هل يدخل لحاجته تحت سقف قال نعم لا بأس بذلك قال أبو عمر هو قول مالك واختلف الفقهاء في اشتغال المعتكف بالأمور المباحة أو المندوب إليها فقال مالك ما ذكرناه عنه‏.‏

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه للمعتكف أن يتحدث ويبيع ويشتري في المسجد واشتغال ما لا يأثم فيه وليس عليه صمت واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة أن المعتكف لا يخرج من موضع اعتكافه لشهود جنازة ولا لعيادة مريض ولا يفارق موضع اعتكافه إلا لحاجة الإنسان ومعانيهم متقاربة جدا في هذا الباب وقال الثوري المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة وما لا يحسن به أن يضيع من أموره ولا يدخل تحت سقف إلا أن يكون ممره فيه ولا يجلس عنده أهله ولا يوصيهم لحاجة إلا وهو قائم أو ماش ولا يبيع ولا يشتري وإن دخل تحت سقف بطل اعتكافه وقال الحسن بن حي إذا دخل المعتكف بيتا غير المسجد الذي هو فيه أو بيتا ليس في طريقه بطل اعتكافه ويحضر الجنازة ويعود المريض في المسجد ويشهد الجمعة ويخرج للوضوء ويكره أن يبيع ويشتري قال أبو عمر من الحجة لمالك ومن تابعه في هذا الباب ما رواه عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع قال أبو عمر لم يقل أحد في حديث عائشة هذا السنة إلا عبد الرحمن بن إسحاق ولا يصح الكلام عندهم إلا من قول الزهري وبعضه من كلام عروة وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه قال المعتكف لا يجيب دعوة ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة والحجة لمذهب الثوري ومن تابعه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال من اعتكف فلا يرفث ولا يساب وليشهد الجمعة والجنازة ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو صائم ولا يجلس عندهم ذكره عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي وبه يأخذ عبد الرزاق وذكر الحسن الحلواني قال حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا إسحاق الفزاري عن أبي إسحاق الشيباني عن سعيد بن جبير قال اعتكفت في مسجد الحي فأرسل إلي عمرو بن حريث يدعوني - وهو أمير على الكوفة - فلم آته فعاد فلم آته ثم عاد فلم آته ثم عاد فأتيته فقال ما يمنعك أن تأتينا قلت إني كنت معتكفا فقال وما عليك إن المعتكف يشهد الجمعة ويعود المريض ويمشي مع الجنازة ويجيب الإمام وبهذا كان يفتي سعيد بن جبير وعن بن جريج ومعمر عن الزهري قال لا يخرج المعتكف إلا إلى حاجة لا بد له منها غائطا وبولا ولا يشيع جنازة ولا يعود مريضا قال وقال عطاء إن عاد مريضا قطع اعتكافه قال أبو عمر ذكر بن خواز بنداذ أن مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري في المعتكف يأتي كبيرة أنه قد بطل اعتكافه قال أبو عمر هؤلاء يبطلون الاعتكاف بترك سنة عمدا فكيف بارتكاب الكبيرة فيه وروي عن أبي حنيفة أن من سكر ليلا لم يفسد اعتكافه يعني إذا لم يتعمد السكر‏.‏

وأما قول مالك لم أسمع أحدا من أهل العلم يذكر في الاعتكاف شرطا وإنما الاعتكاف عمل من الأعمال مثل الصلاة والصيام والحج إلى آخر كلامه في هذا الباب من الموطأ ومعناه أن الشرط فيه لا يبطل شيئا من سنته ولا يجزئه إلا على سنته كسائر ما ذكر معه من أعمال البر قول جماعة من العلماء منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب قالا على المعتكف الصوم وإن نوى ألا يصوم وبه قال بن شهاب الزهري وأبو عمر والأوزاعي قال أبو عمر أما الصلاة والصيام فأجمعوا أن لا مدخل للشرط فيهما‏.‏

وأما الحج فإنهم اختلفوا فيه فمن أجاز فيه الأشراط احتج بحديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها أهلي بالحج واشرطي أن تحلي حيث حبست وسنذكر هذه المسألة في موضعها من كتاب الحج مما فيها للعلماء من المذاهب إن شاء الله‏.‏

وأما الاعتكاف فالشرط فيه أنه متى عرضه ما يقطعه عليه أن يبني إن شاء ولا يبتدئ ف أكثر أهل العلم على ما قال مالك أنه إذا أتى ما يقطع اعتكافه ابتدأ ولم ينفعه شرطه وعليه قضاء اعتكافه ومنهم من أجاز له شرطه إذا اشترط في حين دخوله في اعتكافه ذكر عبد الرزاق عن شيوخه بالأسانيد أن قتادة وعطاء وإبراهيم أجازوا الشرط للمعتكف في البيع والشراء وعيادة المريض واتباع الجنازة والجمعة وأن يأتي الخلاء في بيته ونحو ذلك وزاد عطاء إن اشترط أن يعتكف النهار دون الليل وأن يأتي بيته ليلا فذلك له وعن علي بن أبي طالب وعبد الله له نيته‏.‏

وقال الشافعي لا بأس أن يشرط إن عرض لي أمر خرجت وممن أجاز الشرط للمعتكف أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلا أن أحمد اختلف قوله فيه فمرة قال أرجو أنه لا بأس به ومرة منع منه وقال إسحاق أما الاعتكاف الواجب فلا أرى أن يعود فيه مريضا ولا يشهد جنازة‏.‏

وأما التطوع فإنه يشرط فيه حين يبتدئ شهود الجنازة وعيادة المرضى واختلفوا في المعتكف يمرض ف قال مالك وأبو حنيفة والشافعي يخرج فإذا صح رجع فأتم ما بقي عليه من اعتكافه إذا كان نذرا واجبا عليه وقال الثوري يبتدئ قال أبو عمر هذا إذا كان مرضه يمنعه معه المقام واختلفوا في المعتكفة تطلق أو يموت عنها زوجها ف قال مالك تمضي في إعتكافها حتى تفرغ منه وتتم بقية عدتها في بيت زوجها‏.‏

وقال الشافعي تخرج فإذا انقضت عدتها رجعت واختلفوا في المعتكف يدخل بيتا ف قال بن عمر وعطاء وإبراهيم لا يدخل تحت سقف وبه قال إسحاق وقال الثوري إن دخل بيتا غير مسجده بطل اعتكافه ورخص فيه بن شهاب ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وكان الشافعي لا يكره للمعتكف أن يصعد المنارة وهو قول أبي حنيفة وبه قال أبو ثور وكره ذلك مالك ولم يرخص فيه واختلفوا في المعتكف يصعد المئذنة ليؤذن ف كره ذلك مالك والليث وقالا لا يصعد على ظهر المسجد وقال الحسن بن حي لا بأس بذلك كله قال أبو حنيفة أن يفعل لم يضره شيء ولا يفسد اعتكافه ولو كانت خارج المسجد وهو قول الشافعي‏.‏

وقال مالك لا يشتمل المعتكف في مجالس أهل العلم ولا يكتب العلم وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وسعيد بن عبد الرحمن والليث بن سعد والشافعي لا بأس أن يأتي المعتكف مجالس العلماء في المسجد الذي يعتكف فيه قال أبو عمر من كره ذلك كما كرهه مالك فلأن مجالس العلم شاغلة له كما جعل على نفسه وقصده من الاعتكاف وإذا لم يشهد الجنازة ويعود المريض على أن لا يتعدى اعتكافه إلى شيء من أعمال البر إلا اعتكافه وكما لا تقطع صلاة التطوع ولا غيرها لعمل بر سواها من إصلاح بين الناس وغير ذلك فكذلك لا يدع اعتكافه لما يشغله عنه من أعمال البر ومن رخص في مشاهدته مجالس العلم في المسجد فلأنه عمل لا ينافي اعتكافه وإنما يكره له ما ينافي اعتكافه من اللهو والباطل والحرام قال أبو عمر مالك أقرب بأصله من هؤلاء لأنهم ذهبوا إلى أن المعتكف لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا إن شاء الله تعالى‏.‏